تسارعت الأحداث في صيف هذه السنة، حيث سجل اجلاء سريع لما تبقى من القوات الأمريكية المرابطة لمدة عشرين سنة في أفغانستان، بالموازاة مع ذلك، عرفت مكونات الجمهورية الأفغانية انهيارا سريعا واستسلاما غريبا، في نفس الوقت دخلت قوات مسلحي طالبان العاصمة كابول و احكمت هذه الاخيرة سيطرتها على مجمل الأرض الأفغانية بدون إطلاق ولا رصاصة واحدة. هل يعتبر ما وقع على أرض أفغانستان انتصارا عسكريا لقوات طالبان، أم ان الواقع تحكمه أشياء أخرى؟
ان الحرب لا تحكمها فقط القوة العسكرية و العمليات القتالية بمسرح العميات، بل تحكمها أيضا المفاوضات سواء المعلنة أو الغير معلنة. فالمبدأ الأول من اندلاع الحرب هو محاولة الهيمنة و تحقيق المصالح، و إذا كانت هذه المصالح ستتحقق بأدوات أخرى غير العنف و القتال، فسيتم تبني هذه الأدوات مادام ستعطي نتائج قد لا تحققها العمليات العسكرية.
ما وقع على أرض أفغانستان لم يكن انتصار لطرف على أخر، بقدر ما كان إنهاء للحرب عن طريق المفاوضات، تقاسم فيها جميع المتدخلين الأدوار من أجل انجاحها، مفاوضات بدأت في ولاية الرئيس حامد كرزاي منذ أكثر من عشر سنوات، وهي نفس المفاوضات التي أودت بحياة برهان الدين رباني الذي كان في منصب رئيس المجلس الأعلى للسلام في أفغانستان المفوض له التفاوض مع قياديي طالبان. و رباني هو أحد اهم زعماء الحرب ضد السوفييت، و الذي شغل منصب ثاني رئيس للجمهورية الإسلامية الأفغانية ما بين 1996 و 2001 وهي الحكومة التي كان معترف بها دوليا قبل التدخل الأمريكي بأفغانستان و التي قامت بعد سقوط حكومة نجيب الله الشيوعية سنة 1992.
قتل رباني بعد استقباله لعناصر من طالبان جاءوا من باكستان ليحملوا له اخبار إيجابية بخصوص ما طرحه عليهم من حلول تفاوضية، غير انه وعند استقبالهم فجر احد العناصر الانتحارية عبوة ناسفة كانت بعمامته الشيء الذي نتج عنه وفاة برهان الدين رباني الى جانب 4 من أعضاء المجلس الأعلى للسلام، من هنا أصبح لا بد من ضامن للمفاوضات بين طالبان و باقي القيادات، خصوصا أن ماضي الحركة سجل عدة عمليات ضد قادة و أمراء الحرب الأفغانية، و التي كان لها الأثر الكبير على استمرارية بعض الحركات الجهادية.
و ذكر على سبيل المثال، العملية الانتحارية ضد أحمد شاه مسعود سنة 2001 ، أحد القادة البارزين في الحرب السوفياتية الأفغانية وقائد قوات التحالف الشمالي. الضامن بين المفاوضين كان هو باكستان بصفتها الدولة التي كانت تأوي قياديي الحركة، و التي لها حدود شاسعة مع أفغانستان، و دخلت على الخط أيضا دولة قطر، مع العلم أن دول الخليج كانت لها دور أساسي في تحريك المنطقة منذ حربها الأولى مع الاتحاد السوفييتي، نظرا للتقارب الديني و المذهبي والعقائدي بين الأفغان والخليجيين.
هل تتكلمون هنا عن مفاوضات بين الفرقاء الأفغان فقط، ام بين أمريكا و قوى التحالف من جهة و تنظيم طالبان من جهة أخرى؟
المفاوضات كانت شاملة لجميع المتدخلين في الشأن الافغاني سواء كانوا أفغان أم غيرهم، وساهمت فيها باكستان و مخابراتها بشكل كبير. فالملا عبد الغني برادر، القائد العسكري ورئيس المكتب السياسي لحركة طالبان، كان قد اعتقل سنة 2010 في مدينة كاراتشي الباكستانية، وشاب توقيفه الكثير من الغموض، خصوصا أن الملا برادر كان يقود مفاوضات مع حكومة أفغانستان أنداك، الشيء الذي أغضب حينها الرئيس الافغاني حامد كرزاي.
ضلت حكومة أفغانستان تطالب بالملا برادر، الشيء الذي لم تستجب له باكستان، بالرغم من اطلاق سراح 10 قياديين من طالبان سنة 2012، بمبادرة من رئيس المجلس الأعلى للسلم صلاح اللدين رباني، يعزي بعض المراقبين عمل باكستان على اعتقال والاحتفاظ بالملا برادر هو شعورها بمحاولة استبعادها من المفاوضات الاأريكية الأفغانية وبالتالي التقليل من تأثيرها على القرارات المتخذة بالمنطقة.
وقد انتظر الملا برادر الى غاية 25 أكتوبر 2018 حين أكدت حركة طالبان اطلاق سراح برادر بطلب من أمريكا حسب ما صرح به المبعوث الخاص للولايات المتحدة بأفغانستان زلماي خليل زاده، وتم تعيينه كرئيس للمكتب الدبلوماسي لطالبان بالعاصمة القطرية الدوحة، وهو نفسه من سيوقع في فبراير 2020 اتفاق سحب القوات الامريكية من أفغانستان، وسيظهر ليلة دخول القصر الرئاسي بعد مغادرة الرئيس الافغاني، اشرف غني، في غشت 2021 لأول مرة بأفغانستان منذ سقوط حكومة طالبان سنة 2001. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أكدت عن طريق نائية وزير خارجيتها انه يوجد ”توافق“ بينها وبين كل من الصين وروسيا بشأن الوضع في أفغانستان. ومن هنا نستنتج أن الأمور كانت مسطر لها لتسير على ما ألت إليه، و أن تأخر الوصول الى اتفاق كان يتعلق بتدخل بعض القوى الإقليمية المجاورة للتفاوض حول دورها المستقبلي بالمنطقة، و تدخل قوى إقليمية أخرى بالخليج كضامن ووسيط بين المتفاوضين الأساسيين.
كيف ترون العفو الشامل الذي اعلنه تنظيم طالبان؟ و هل يمكن للتنظيم ان يعفوا عن من حمل السلاح ضده في الامس القريب؟
العفو ليس بجديد في منطق المصالح والمفاوضات بين الفرقاء الأفغان، فهو قد يعني أيضا التحالف. يمكننا أن نذكر مثال عبد الرشيد دوستم هذا السياسي و المارشال في الجيش الافغاني، الذي كان دائما حليف المنتصر، فقد قاتل الى جانب الحكومة الشيوعية والسوفييت قبل ان يتخلى عن حكومة نجيب الله قبل وقت قصير من حلها و ينضم الى المجاهدين ويتأرجح بين مناصرة مرة غلبت يار ومرة أخرى برهان الدين رباني، قبل ان يغادر البلاد في 1998 بعد سيطرة قوات طالبان على معظم التراب الافغاني، ليعود سنة 2001 ليناصر الأمريكيين في حربهم على طالبان، وسيعينه الرئيس السابق حامد كرزاي، قائداً عاماً للقوات الأفغانية، و سيتسلق المناصب ليصبح نائب الرئيس الافغاني المخلوع اشرف غني، من سنة 2014 الى غاية 2017.
من هنا نستشف ان صراع المصالح بأفغانستان كانت دائما يتجاوز ماضي القياديين و أيديولوجيتهم و انتماءاتهم العقدية و العرقية، فالدولة الافغانية الإسلامية بنيت على اسطورة حرب المجاهدين و تغلبهم على السوفيات الشيوعيين، في نفس الوقت نجد أن من حمل السلاح ضد المجاهدين لسنين عديدة كان حليفا لهم في كثير من الوقت. فلا عجب ان رأينا مثل هذه التحالفات مستقبلا.
يقول بعض المحللين أن خروج أمريكا من أفغانستان هو تحالف مع طالبان من أجل زعزعة خصومها الإرانين والصينين والروسيين خصوصا بعدما قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، إن الولايات المتحدة بدأت في التركيز على مواجهة الصين، تزامناً مع انسحابها من أفغانستان، ضمن توجه جديد لطمأنة حلفائها بالتزاماتها العسكرية، وتبديد الشكوك التي أثارها سقوط كابول. كيف ترون ذلك؟
أضن أن تأثير حركة طالبان على دول الجوار هو جد محدود، فجميع عملياتها العسكرية مند ضهورها في تسعينات القرن الماضي كانت مقتصرة على الأرض الأفغانية دون غيرها. صحيح أن لأفغانستان حدودا برية مع 6 دول و هي ايران وباكستان و الصين و تركمنستان وطاجكستان و أوزبكستان، غير أن هذه الحدود كانت مفتوحة دائما لدعم الفصائل داخل التراب الافغاني و ليس العكس، مع الأخذ بعين الاعتبار ان المجتمع الافغاني يتشارك و دول الجوار الأعراق المكونة له من بشتون وطاجيك و تركمن وقرغيز و اوزبك و غيرهم. أضف الى ذلك أن الحدود البرية بين أفغانستان و الصين هي عبارة عن شريط ضيق يتراوح عرضه بين 13 و 30 كلم يدعى ممر واخان يتصل بمنطقة شين جيانغ موطن اليغور المسلمين الصينين، وكان قد اتفق سنة 1893 على ان يكون هذا الممر كمنطقة عازلة تحت السيطرة الأفغانية تفصل بين الإمبراطورية البريطانية أي الهند البريطانية آنذاك والإمبراطورية الروسية، هذه المنطقة الضيقة بدأت تشهدت وجودا صينيا منذ سنة 2018 حين شيدت الصين قاعدة عسكرية بالمنطقة لتدريب الجيش الأفغاني، المنهار الان، على ما سمته مكافحة الإرهاب،
ولم تكتفي الصين بتواجدها بهذا اللسان الضيق من الأرض الأفغانية، بل شيدت أيضا نقطة مراقبة عسكرية داخل طاجيكستان بالقرب من قرية ” شيمق” و التي تطل على رواق واخان. كما ذكرنا سابقا أن السياسة والهيمنة تعتمد على المصالح المشتركة وان الصين مصلتها مع أي سلطة تحكم أفغانستان، فمشروع طريق الحرير الذي تعيد الصين بناءه و الذي تنوي ان تكون أفغانستان جزءا منه هو أكبر حافز لها لتتعامل مع أي سلطة تحكم الأرض الأفغانية، مع العلم ان النظام الصيني الحالي هو نظام براغماتي، يغلب المصلحة الاقتصادية عن أي شيء أخر.
*رئيس معهد الدراسات الاجتماعية و الاعلامية