تلعب المالية العامة دورا محوريا في تنفيذ السياسات الوطنية المتعلقة بالتنمية و الحد من الفقر وتقليص التباينات المجالية بين مناطق المملكة. و قد اعتمد المغرب خلال العشريتين الاخيرتين على مجموعة من السياسات الماكرو اقتصادية الاحترازية، والتي مكنته من تجاوز الازمات المالية العالمية بأقل الاضرار، وقد نبه صندوق النقد الدولي المغرب سنة 2011 على إثر المشاورات التي أجراها مع المسؤولين المغاربة، انه ومن اجل تحقيق معدلات نمو مرتفعة ودائمة على المدى المتوسط، يتعين على السلطات اعتماد اجراءات صارمة من أجل اعادة توجيه الميزانية العامة، و مضاعفة الجهود من اجل تحسين مناخ المقاولاتية و الاستثمار. نفس التقرير اكد على أن الاجراءات التي اتخذها المغرب مكنته من هامش مناورة كافي لتجاوز الازمات الدولية لسنة 2008 وكذلك الاستجابة لمطالب الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب مند بداية 2011 على غرار باقي دول العالم العربي ، مشيرا الى انه في هذا الوضع الصعب تمكن المغرب من تسجيل أداء اقتصادي جيد و تحسن في المؤشرات الاجتماعية.
وحيت أن القانون التنظيمي للمالية لسنة 1998 كان يعتمد على التدبير الميزانياتي القائم على الوسائل و لم يكن يسلط الضوء على النتائج و الكلفة الفعلية لتنفيذ السياسات العمومية، فقد سن المشرع المغربي إصلاحا يهم هذا القانون و الذي بدأ تنزيله تدريجيا ابتداء من سنة 2016، حيث اعتمد التشريع الجديد على التدبير الميزانياتي القائم على النتائج إسوة بعدد من الدول الرائدة في هذا المجال.
وتطرقت الدراسة التي بين أيدينا و التي تم إنجازها من طرف الاستاذ منير عماري، الباحث في المالية العمومية، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، و الاطار بوزارة المالية بالمغرب تحت ادارة واشراف معهد الدراسات الاجتماعية و الاعلامية، الى تدبير المالية العمومية على ضوء القانون التنظيمي الجديد لقانون المالية والذي يعتبر أكبر إصلاح لمنظومة المالية العمومية في تاريخ الدولة المغربية، والمندرجة في انخراط المغرب في تعزيز منظومة الحكامة العمومية، الى مستجدات القانون والاكراهات التي أعاقت تنزيله. وقد قام البحث بجرد مختلف الأدوات الميزانياتية والمحاسباتية والتدبيرية الجديدة التي جاء بها القانون التنظيمي قبل ان يتناول المشاكل والمعيقات التي أثرت بشكل سلبي على تنزيل القانون التنظيمي، مع اصدار بعض التوصيات التي قد تساهم في تجاوز النقائص المسجلة في تنزيل القانون التنظيمي السالف بغية تحسين تدبير المالية العمومية وتطويرها وجعلها ركيزة لبناء اقتصاد قوي ومجتمع رفاه في المغرب.
- الأدوات الميزانياتية والمحاسباتية الجديدة لإعداد قانون المالية على ضوء القانون التنظيمي
على اعتبار أن القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية هو إصلاح جذري لمنظومة تدبير المالية العمومية في المغرب بدأ تنزيله بشكل متدرج منذ سنة 2016، فقد أرسى العديد من الأدوات المحاسباتية والتدبيرية الجديدة التي رسخت أهمية السياسة الميزانياتية في إعداد تصور وتنفيذ وتتبع وتقييم جميع السياسات العمومية. ومن بين المستجدات المهمة التي أرساها القانون التنظيمي نذكر البرمجة الميزانياتية متعددة السنوات وترسيخ مبدأ الصدقية في تدبير المالية العمومية مع توجيه نفقات الاستثمار لإنجاز المخططات التنموية الاستراتيجية والبرامج متعددة السنوات، وترسيخ القاعدة الذهبية في تدبير الدين العمومي مع عقلنة احداث المرافق المسيرة بصورة مستقلة واخضاع المحاسبة العامة للدولة للقواعد المطبقة في القطاع الخاص مع إعادة تبويب نفقات الميزانية العامة وإنشاء وظيفة المسؤول عن البرنامج مع تقليص ترحيل اعتمادات ميزانية الاستثمار، وكذا منح صلاحيات تدبيرية واسعة للمسؤولين عن البرامج والآمرين بالصرف مع ترسيخ الشفافية في اعداد قانون المالية وتعزيز صلاحيات مجلس النواب بشكل خاص في مناقشة مقتضياته والتصويت عليها، وتقوية صلاحيات البرلمان بغرفتيه بشكل عام في مراقبة الفعل الحكومي.
- معيقات تنزيل القانون التنظيمي
بالنظر الى حجم المستجدات التي أتى به القانون التنظيمي رقم 13-130 من أدوات مالية ومحاسباتية وتدبيرية تنحو بالمالية العمومية منحى الفعالية والنجاعة، والتي تعتبر كلها ترسيخا لمبادئ الحكامة الجيدة التي أرساها الدستور المغربي، إلا أن تنزيل القانون اصطدم بمجموعة من الصعوبات والمعيقات التي حدت من تأثيره على تطوير أساليب اشتغال الإدارة العمومية. ومن أبرز هذه المعيقات، ذكر التقرير تأثير الحجم الكبير للتغييرات والمستجدات على طرق اشتغال الموظفين، حتى مع اعتماد مبدأ التدرج في تنزيل القانون والذي كان الغرض منه التغلب على هذه الإشكالية. من المعيقات. أيضا ضعف إشراك المؤسسة البرلمانية في صياغة القانون التنظيمي مع ما لهذا الأمر من تأثير سلبي في ممارسة الرقابة البرلمانية على الفعل الحكومي فيما يخص تنفيذ ميزانية الدولة، خصوصا في قانون التصفية، الذي ورغم أهميته القصوى في تقييم السياسة الميزانياتية، إلا أنه لا يحظى بالاهتمام الكافي من لدن البرلمانيين أثناء مناقشته والتصويت عليه. يعتبر التداخل بين البرامج والشركاء من الإشكالات التي تعيق تنفيذ المشاريع وتحديد المسؤوليات. يعتبر عدم تأهيل الآمرين بالصرف للقيام بمهام المسؤولين عن البرامج اشكالا اخر آثر سلبا على تنزيل القانون التنظيمي مع عدم قدرة بعضهم على تبني أهداف واقعية لبعض البرامج وصعوبة وضع مؤشرات لقياسها، والخلط بين مؤشرات النجاعة ومؤشرات الأداء. كما ان ضعف الرقابة المواطنة يعتبر مثالا اخر على المعيقات التي واجهت إنجاح الاصلاح ،بحيث لم يأخذ القانون التنظيمي بعين الاعتبار هذه الممارسة الفضلى للحكامة الجيدة، والتي كانت لتقوي نجاعة السياسة الميزانياتية عبر تكريس الشفافية والرقابة والمراقبة، من البرلمان والمواطنين على حد السواء، خصوصا أن ضعف تكوين البرلمانيين ومحدودية قدراتهم، يقابله توفر المجتمع المدني والمواطنين بشكل عام، على أشخاص ذوو مؤهلات علمية وتقنية عالية، من دكاترة وخبراء واختصاصيين، قادرين على المساهمة في تحسين تدبير المالية العمومية عن طريق الرقابة المواطنة والياتها والتي انتشرت بشكل كبير في الدول المتقدمة، حيث كان من الأحرى الاقتداء بهم في هدا المجال.
- توصيات من أجل تحسين تدبير المالية العمومية وتجويد السياسة الميزانياتية
لتعزيز ورش إصلاح السياسة الميزانياتية للدولة، ومن أجل تجاوز المعيقات السالفة الذكر، اقترحت الدراسة بعض التوصيات التي قد تساهم في تحسين تدبير المالية العمومية وتطويرها على ضوء القانون التنظيمي رقم 13-130 المتعلق بقانون المالية بالمغرب، وكذا المبادئ والقواعد التي أرستها الحكامة الجيدة في تدبير المالية العمومية في دول أخرى. ومن اهم توصياتها تقوية صلاحيات البرلمان في مراقبة المالية العمومية عبر تقوية قدرات البرلمانيين وتكوينهم في كل ما يخص المالية العمومية وتتبعها وتقييمها. كما أوصت الدراسة بضرورة إرساء أدوات لتبع وتقييم تنفيذ الميزانية بشكل متواصل عوض الاكتفاء بمناقشة مشروع قانون المالية والتصويت عليه، وكذا التصويت على قانون التصفية بدون حتى مناقشته، بحيث يجب التفكير في إرساء أدوات أخرى أكثر فعالية لتبع تنفيذ الميزانية بشكل متواصل بشكل يسمح للبرلمانيين بالاضطلاع على المعطيات المالية والميزانياتية لجميع القطاعات بشكل دائم، وتقديم إحاطات للحكومة عند رصد نقائص أو اختلالات أثناء تنزيل سياسات عمومية ما. ومن التوصيات الأخرى المقترحة تعزيز قواعد الشفافية في تدبير الشأن المالي للدولة والتي تعتبر القاسم المشترك بين جميع الدول المتقدمة، وهذا ما يستدعي اهتمام الدولة المغربية نحو أهمية تنزيل مبادئها وقواعدها بشكل يراعي طبيعة الإدارة المغربية وموظفيها ومرتفقيها، بحيث يجب تصبح هده القواعد ملزمة للجميع عبر تنزيلها بنصوص قانونية وتضمينها فصول جزرية عند الإخلال بها وعقوبات جنائية إن اقتضى الحال.
من التوصيات المهمة التي اقترحها البحث هناك تفعيل مهمة تقييم السياسات العمومية، حيث أنه يشكل إضافة هامة لتدبير السياسة الميزانياتية عبر توجيه الموارد المالية للدولة بشكل فعال وناجع، إلا أن المؤسسة البرلمانية لم تستطع القيام بهذه المهمة على الوجه الأمثل، وهو ما يضيع على البرلمان القيام بمهمة التقييم على أكمل وجه، لجعلها أداة في تقويم السياسات العمومية.
وكتوصية أخيرة، دعا الباحث الى ضرورة رد الاعتبار لقانون التصفية والذي يعتبر أداة رئيسية لتقييم السياسة الميزانياتية للحكومة عبر تحليل جميع التقارير التي تأتي مرفقة مع القانون. جميع هذه التقارير تحتوي على معطيات مالية ومحاسباتية مهمة حول تنفيذ برامج جميع الوزارات، بالتالي تنفيذ المعطيات المتعلقة بتنفيذ السياسات العمومية للدولة والتي تعتبر أهم ركيزة في مسلسل النمو والتطور الذي تشهده المملكة، كون الدولة تعتبر الفاعل الاقتصادي والاجتماعي الرئيسي. أمام هذه الأهمية التي يحملها قانون التصفية، تستوجب عملية مناقشته إبداء الملاحظات من طرف البرلمانيين، مع ضرورة تبرير الوزراء للاختلالات التي شابت تنفيذ البرامج التي تدخل في اختصاصاتهم، في ترسيخ فعلي (وغير شكلي) لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، مع العمل على جعل النقاش والتصويت متاحا للعموم، في تنزيل فعلي لمبدأ الشفافية، مما سيمكن من تجويد تنزيل السياسات العمومية وفق مبدأ النجاعة.